غير مصنف

أمريكا ترى أن التنظيمات المسلحة في سوريا أداة قابلة للاستثمار لتبقي الأمور بعيدة عن الحل



وكالة مهر للأنباء_ وردة سعد: تستمر المظاهرات في إدلب، وترتفع المطالب بإسقاط زعيم مايسمى ب”هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، وفريقه الأمني، فهل تسعى الدول الداعمة للجولاني لتصفيته…

وفي السياق، أجرى الرئيس السوري، بشار الأسد، مقابلة صحفية مع الإعلامي الروسي “فلاديمير سولفيوف” أوضح خلالها ماهية الصراع، ونسف الكثير مما كان يتم تسويقه على أنه مسلمات.

وحول هذه المحاور وفيما يتعلق بسلاح المسيرات الفعّال لدى محور المقاومة، أجرت مراسلة وكالة مهر للأنباء، الأستاذة “وردة سعد” حواراً صحفياً مع الباحث السوري المتخصص بالجغرافيا السياسية والدراسات الاستراتيجية الدكتور، حسن أحمد حسن، وجاء نص الحوار على النحو التالي:

التشخيص العميق لِطبيعة الصراع مع العدو، على مدى ما يقرب من ثمانين عاما، الذي قدّمه الرئيس بشار الأسد في مقابلته الأخيرة مع الإعلام الروسي، والمواقف التي أطلقها هي حجّه على كل إنسان عربي كما اعتبرها مراقبون، فما رأيكم بهذا الأمر؟

يدرك المتابع الموضوعي لأحاديث السيد الرئيس بشار الأسد ولقاءاته، أن الميّزة الأهم لما يقوله تتجلى في “التأصيل الفكري والمعرفي” والقدرة الفائقة على نسف الكثير مما كان يتم تسويقه على أنه مسلمات، فتبرهن كلمات السيد الرئيس على أن ذلك جزء من بربوغندا حيكت مدخلاتها بخبث ودهاء لتؤدي إلى مخرجات محددة تخدم مصالح أعداء الشعوب والإنسانية، ومن هنا يمكن القول بكثير من اليقين: نعم ما قاله السيد الرئيس حجة على كل أنصار الحق والحقيقة، وإذا كان هناك من اشتكى في يوم من الأيام من ضبابية في الرؤية، أو ارتجاح في مؤشر البوصلة، فالسيد الرئيس بشار الأسد في مقابلته الأخيرة مع الإعلامي الروسي “فلاديمير سولفيوف” بين معالم الصورة بوضوح، وأعاد ضبط مؤشر بوصلة العمل المأمول ليبقى متجهاً نحو فلسطين التي يجب أن تبقى قضية العرب المركزية، ولم يكتفِ بدحض السردية الصهيونية وكل ما يدور في فلكها ويخدم حكام تل أبيب، بل قدم القراءة الموضوعية التي تخاطب العقل وتقنعه، وتعرض الحقائق كما هي مجردة من كل الزيف الذي أضافته إمبراطورية الإعلام الصهيوني المنتشرة في شتى أنحاء المعمورة، ولم ينفع حكام تل أبيب الجيوش المستنفرة من الإعلاميين والمهنيين المتخصصين بكي الوعي المجتمعي، وإعادة تغطية الثقوب الكبيرة التي سلط السيد الرئيس الضوء عليها، وبرهن على زيف الثوب البراق الذي يحرص أولئك جميعاً على اعتماده مرتكزا ومنطلقاً لكل ما يروجون له، ومن المهم التوقف عند بعض العناوين المهمة والأفكار الرئيسة التي تضمنها حديث السيد الرئيس بهذا الخصوص، ومنها:

• فلسطين هي القضية المركزية، ويجب أن تبقى كذلك، والحرب على غزة جزء من الحرب على القضية الفلسطينية التي تواجه تحديات كبرى مصيرية، وفلسطين لا تختزل في غزة، كما لا تختزل المقاومة الفلسطينية بحركة حماس التي لا تنفصل عن الشعب الفلسطيني في غزة وكامل فلسطين، وهنا تظهر أهمية ربط الجزء بالكل وفق ما أوضحه قول السيد الرئيس: (… فلا نستطيع أن نتحدث عن الوضع اليوم من دون أن نتحدث عن المشكلة عموماً، لا نستطيع أن نتحدث عن غزة وحدها، فهي جزء من الموضوع الفلسطيني، والموضوع الفلسطيني هو موضوع واحد، “إسرائيل” محتلة.. “إسرائيل” معتدية، تقتل الفلسطينيين لأنهم يدافعون عن أنفسهم، هذا هو بالمختصر، فلا يوجد أدنى مبرر لا سابقاً ولا حالياً لاستخدام “إسرائيل” القوة ضد الفلسطينيين).

• تفنيد مقولة “حق استخدام القوة للدفاع عن النفس” لأن ذلك محصور في مواجهة عدو يهاجم أراضي غيره أو سيهاجمها، أو يسعى بشكل أو بآخر لتحطيم الوطن والمصالح بأي شكل من الأشكال ليس بالضرورة بالطريقة العسكرية المباشر، وفي حالة غزة الموضوع مختلف كما أوضح السيد الرئيس بقوله: (… فالفلسطيني أولاً ليس دولة تعتدي على دولة من الناحية القانونية، وليس شعباً آخر يأتي ليحتل دولة أو أراضي شعب آخر في دولة مجاورة، هو صاحب هذه الأرض، وهو الذي احتُلت أرضه، وهو الذي يُقتل منذ نحو ثمانين عاماً تقريباً…)، وهذا يعني شرعنة الحق الفلسطيني في الدفاع عن النفس بكل ما يتوفر لديه من وسائل، فهو كما أوضح السيد الرئيس (يستطيع أن يستخدم القوة لكي يحمي أرواح أبنائه، بالرغم من أنه ليس دولة، هم مجموعات من المدنيين لديهم سلاح كمقاومة، ولكن لا يوجد لديهم لا دولة ولا جيش، فلا يمكن المقارنة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في هذه الحالة).

• عندما يشير السيد الرئيس في معرض أجوبته إلى العدوان الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني منذ عام 1930م. فإنه يسلط الأضواء الكاشفة على التواطؤ الغربي الاستعماري بين السلطات البريطانية آنذاك وبين العصابات الصهيونية التي ارتكبت الفظائع والجرائم حتى قبل الإعلان عن قيام كيان الاحتلال، كما أنه يشير إلى الانتفاضة الفلسطينية العارمة ضد سلطات الانتداب البريطاني منذ ذلك التاريخ لمنع استجلاب المستوطنين وتمكينهم من السيطرة على أملاك الفلسطينيين الذين انتفضوا بقيادة المجاهد السوري عز الدين القسام ابن مدينة جبلة الذي استشهد على ثرى فلسطين دفاعاً عن الحق العربي الفلسطيني.

• النقطة الأخرى المهمة جداً جاءت عبر الحديث عن الوضع العربي السيء وغير المتماسك، حيث تعمل كل دولة عربية بشكل ذاتي، كما أن الدور الغربي في قرارات الدول العربية قوي، والضغط الغربي لصالح “إسرائيل” موجود وواضح في القرارات العربية، وطالما أن الوضع بهذه الصورة لا نستطيع أن نعلق الآمال على الوضع العربي الرسمي، وهذا يجيب على التساؤل: (.. لماذا ذهب أهل غزة باتجاه الحرب؟ لأنهم يعرفون بأنه لا توجد دولة عربية أو غير عربية أو دولة مسلمة أو غير مسلمة ستدافع عنهم، فكان لا بد من أن يدافعوا عن أنفسهم بأيديهم..).

• الموضوع الأكثر حساسية في أجوبة السيد الرئيس في هذه المقابلة كان بتوضيح حقيقة الغرب الذي لا تعنيه القيم ولا الأخلاق، ولا يهمه إلا مصالح الشركات ومجموعات الضغط الكبرى، فالدولة لا تقدم خدماتها للشعب بل للشركات التي تتعامل مع الشعب، وتشبيه الأمر بمجلس الإدارة المكون من المالكين الفعليين وهم لوبيات الإعلام والسلاح والنفط والمال عبر المصارف الكبرى وبقية المكونات، في حين أن الدور المناط بأي رئيس أمريكي أقرب ما يكون إلى دور المدير التنفيذي، أما بقية الرؤساء في الغرب الأطلسي المنافق فهم يعملون كمدراء فرعيين، وهذا النظام القائم على مصالح تلك الشركات يتشدق بالديمقراطية المحصورة بصندوق الاقتراع ضمن خيارات ضيقة يحددها مجلس الإدارة ذاته”.

المسيّرات واحد من أشد الأسلحة فعاليةً في المواجهة الأخيرة، وقد نجح محور المقاومة في استثمار ذلك بوجه العدو، خاصةً على الجهتين العراقية واليمنية، أيُّ دلالات وعِبر يمكن استخلاصها من الطريقة التي سخّرت فيها قوى محور المقاومة هذا السلاح في خدمة الأهداف، كما هو حاصل في الحالتين اليمنية والعراقية؟

قد تكون الطائرات المسيرة إحدى المفاجآت التي أظهرها محور المقاومة في ميادين القتال والاشتباك القائمة منذ الموجة الأولى لملحمة “طوفان الأقصى”، وقد يكون لدى بعض أطراف المحور أو أغلبها ما هو أكثر فاعلية وقدرة على تبريد الرؤوس الحامية في واشنطن وتل أبيب، ولكن جدولة الإعلان عن تلك المفاجآت المتتالية مضبوطة الإيقاع بما يحقق الهدف عن الإعلان عن أي منها ضمن التوقيت الذي تراه قيادة المحور، وليس ضمن الرغبات والأماني وردود الأفعال الآنية التي لا يمكن أن تصنع نصراً قط، ومن الطبيعي أن تحرص أطراف محور المقاومة على إحراز نصر استراتيجي يتناسب وحجم التضحيات الكبيرة والغالية التي قدمت حتى الآن.

ما يتعلق بالدلالات والعبر من استخدام المسيّرات بطريقة احترافية فهي عديدة، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى بعضها، ومنها:

• الجانب الأكثر أهمية من استخدام المسيرات أو تزويد أطراف محور المقاومة بها هو نقل تقنية تصنيعها، ليقوم كل طرف من أطراف محور المقاومة بإثبات كفاءته الذاتية بالتصنيع وتطوير أجيال متعددة من تلك الطائرات المسيرة وغيرها من الأسلحة الفعالة التي تضاهي بقدرتها النارية وتأثيرها المباشر فخر ما ينتجه المجمع الصناعي الأمريكي، وهذا إنجاز نوعي وجوهري يضاف إلى سجل الجمهورية الإسلامية بعامة، وإلى المدرسة السليمانية بخاصة، حيث أثمر حرص كبير شهداء المحور المقاوم الحاج قاسم سليماني عن مجموعة كبيرة من الإنجازات النوعية، ومن ضمنها تصنيع الطائرات المسيرة بشكل ذاتي، فضلاً عن تزويد جميع الأطراف بما يلزم من هذه المسيرات وفق الوضع الخاص بكل طرف من أطراف محور المقاومة.

• عندما تستطيع الطائرات المسيرة اليمنية أن تتعامل مع البوارج العسكرية الكبرى الأمريكية والبريطانية وتغرق بعضها، فهذا يعني الكفاءة العالية في التصنيع والاستخدام بآن معاً، كما يعني الإبداع في تكتيكات الاستخدام القتالي التي تلزم العدو على إطلاق صواريخ من أحدث منظومات الدفاع الجوي والتي تبلغ كلفة الصاروخ الواحد مئات آلاف الدولارات لإسقاط هدف جوي تكلفته لا تتجاوز بضعة مئات أو آلاف من الدولارات، ومع ذلك تصل بعض تلك الطائرات إلى أهدافها المحددة وتدمرها.

• الأمر ذاته ينطبق على الطائرات المسيرة لدى المقاومة العراقية التي دكت القواعد الأمريكية مرارا وتكراراً بلهيب تلك الطائرات المسيرة وبخاصة المكرسة منها لتنفيذ مهام هجومية، ووصول بعضها إلى أهداف استراتيجية في عمق الكيان الإسرائيلي المؤقت، وهذا يعني سقوط كل نظريات “حماية البطن الرخو” أي الداخل الإسرائيلي، وتحول الجغرافيا المفتوحة على امتدادها إلى مسرح عمليات قتالية، لا ضمان لتفوق العدو في أي منها.

• التطوير الكبير الذي شهدته صناعة الطائرات المسيرة لدى محور المقاومة، وتعدد الأجيال المنتجة بمهام متعددة: منها استطلاعية تتعلق بالرصد والتصوير والنقل المباشر، وبالتالي معرفة تحرك العدو في خطوطه الخلفية وجبهته الداخلية، ومنها مهام قتالية خاصة باستهداف مقرات التحكم والقيادة والسيطرة، وتجمعات القوات المعادية، ومحاور تحرك أية قوات على أية جبهة، والقدرة على التعامل مع تلك الأهداف لحظة بلحظة، وهذا يعني قطع الطريق على أية قوات داعمة تتقدم لمساندة التشكيلات التي يتعثر أداؤها الميداني في حال توسعت الحرب وتم الانتقال من العمليات مضبوطة الإيقاع إلى الحرب الكبرى الشاملة، وهناك العديد من النقاط الاخرى المهمة والخاصة بتكتيكات استخدام الطائرات المسيرة، وهذا ما يمكن الحديث عنه باستفاضة بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويرى العدو بأم العين ما الذي تخبئه هذه المسيرات في جولات الاشتباك القائمة والمحتملة في القادم من الأيام”.

نظرة الغرب إلى عملائه في منطقتنا، هي الأساس في استعلاء أميركا علينا، سورية مع حلفائها بقيت حالة فريدة، متمسكة بقرارها الوطني وسيادتها وثوابتها التاريخية، أي عمق ذاك الذي أبدعه الرئيس الأسد في هذه القراءة الإستراتيجية؟

كثيرة هي الجوانب الإبداعية التي تضمنتها قراءة السيد الرئيس عبر أجوبته على الأسئلة الموجهة، ويمكن باختصار الإشارة إلى أهم تلك الجوانب، ومنها:

• التمسك بالمصالح الوطنية أكثر جدوى ومردودية من أي خيار آخر على المستوى الاستراتيجي، بغض النظر عن أن التكلفة الأولية تكون باهظة ومؤلمة على المدى القريب، لكن على المدى البعيد فالربح مضمون استراتيجياً، وأهم ما فيه ربح الوحدة الوطنية التي تمثل أهم عوامل قوة الدولة، ولذا يجب أن يبقى على أجندة عمل كل الوطنيين الشرفاء الدرس الأول الذي لخصه السيد الرئيس بقوله: (لا تبادل أو لا تتنازل عن مصالحك الوطنية مقابل دعم خارجي لا غربي ولا غير غربي، المصالح الوطنية أولاً وثانياً وثالثاً وعاشراً وبعدها تأتي العلاقات الخارجية…).

• لا وجود لمصطلح الأخلاق في قاموس الغرب، بل العلاقات قائمة على المصالح الذاتية الآنية المتبدلة، وبالتالي لا ثقة ولا ضمان لعلاقة أي دولة في العالم مع هذا الغرب المنافق، وهذا يعني أن العلاقة مع الغرب مهما بدت متينة أو إستراتيجية فإمكانية التخلي عن حلفاء الأمس قائمة وقاعدة أساسية من قواعد التعامل الغربي، ومهما تقدم هذه الدولة للغرب من خدمات فهو يستخدمها ويدعمها لأداء دور معين، وعندما ينتهي هذا الدور سيلقى بها في سلة المهملات بعد انتهاء الدور، وهذا ما حصل مع شاه إيران وكثيرون غيره.
• المنظومة السياسية في الغرب قائمة على البيع والشراء وليست منظومة مصالح مشتركة كما يدعون ويسوقون في خطابهم الإعلامي، نعم يقيمون علاقاتهم على المصالح، ولكنها المصالح الخاصة بالغرب والضرب عرض الحائط بمصالح الآخرين، كما أن هذا الغرب الذي حذف من قاموس تعامله السياسي كل ما له علاقة بالأخلاق والقيم واحترام إنسانية الإنسان وما شابه لا يعترف بوجود شركاء وأصدقاء، وهم ـكما أوضح السيد الرئيس: (… لن يقبلوا بروسيا شريكاً، فهم لا يقبلون بشركاء، وأمريكا لا تقبل بأوروبا شريكة، بريطانيا ليست شريكة ولا فرنسا ولا ألمانيا كل هذه الدول هي دول تتبع لأمريكا، فإذا كانت أمريكا لا تقبل بأوروبا شريكة وهم الحلفاء التقليديون هل ستقبل بروسيا؟ مستحيل…).

• كذب الديمقراطية الغربية وزيفها، واختزالها بالذهاب لصندوق الانتخابات وفق ما تفرزه موازين القوى المتنفذة، أما حرية التعبير عن الرأي فلا تبلور لها على أرض الواقع والدلائل كثيرة، وهو ما أشار إليه السيد الرئيس بقوله: (كم مظاهرة خرجت في العالم الغربي ضد الحرب على العراق منذ عشرين عاماً؟ كم مظاهرة خرجت في الأشهر الأخيرة دعماً للفلسطينيين؟ هل تُغير هذه المظاهرات أي شيء من السياسة؟ لا تغير…).

• موضوع الاتهامات التي يصدرها الغرب بحق الزعماء الذي يرفضون الإذعان لمشيئته والانصياع لإرادته ليست ذات قيمة، ولا يحق لدول قتلت عشرات الملايين من الأبرياء بعد الحرب العالمية أن يطلقوا أحكاما على أي زعيم أو قائد يرفض طأطأة الرأس لجبروتهم وتهديداتهم، وقد أوضح السيد الرئيس هذا الجانب بشفافية تامة عندما قال: (… عشرات الملايين من المواطنين أو الأبرياء قتلوا في العالم بسبب السياسات الغربية وبشكل مقصود، هجموا واحتلوا العراق فأفغانستان وليبيا وسورية وغيرها من الدول، هل يحق لهؤلاء أن يتحدثوا بالديمقراطية أو بحقوق الإنسان، أو بالقانون الدولي أو بالأخلاق؟ فإذا سمعت تقييماً من هؤلاء فهو لا يختلف عن شخص لص في الشارع يأتيني ويشتمني، أقول له لا قيمة لكلامك، الحقيقة أن كلام المسؤولين الغربيين ليس له قيمة، لم يعد له قيمة، لذلك علينا ألا نضيع وقتنا في تقييمهم، هم أقل من أن يقولوا من هو جيد ومن هو سيئ…)”.

هي ليست المرة الاولى التي تشهد فيها ادلب ومناطق سيطرة الجماعات الارهابية في سورية، اضطرابات وصراعات بين امراء الحرب او بينهم وبين المواطنين المغلوب على امرهم.. في اي إطار يمكن وضع المظاهرات الشعبية الاخيرة في هذه المنطقة المخطوفة.. وكيف نفهم هذه الجرأة للتنديد بحكم الجولاني ؟

قد تكون الصورة المتشكلة في إدلب من أكثر الصور غموضاً وتعقيداً وتشابكاً لأسباب متعددة أفرزتها سنوات الحرب المفروضة على الدولة السورية منذ آذار 2011، ومن المهم فكفكة مدخلات الصورة لفهم ما يجري وتداعياته المحتملة، وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط ومنها:

• إدلب هي نقطة تجميع الفصائل الإرهابية المسلحة الأكثر تشدداً، والتي تم كنسها من مختلف المناطق الجغرافية السورية التي تم تحريرها في السنوات السابقة، ومن رفض القبول بتسويات محلية تم ترحيلهم إلى إدلب، فضلاً عن أكثر العناصر الإرهابية المتشددة التي تم استقدامها من شتى دول العالم، أي أنها تحوي خليطاً غير متجانس بطبيعته وتنوع مكوناته، والقاسم المشترك الأعظمي بين أولئك جميعاً هو التشدد والتطرف في الإرهاب.

• تعدد مرجعيات التنظيمات الإرهابية المسلحة الموجودة هناك، فمنها يرتبط بالتركي بشكل مباشر، ومنها يرتبط بالأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو الخليجي أو غير ذلك سواء أكان الارتباط مباشراً أو غير مباشر، ولكل منها دور وظيفي يحرص على أدائه بحرفية لضمان استمرار الدعم الخارجي الذي يتلقاه من الجهة التي يرتبط بها.

• أبو محمد الجولاني زعيم مايسمى ب”هيئة تحرير الشام”، أي زعيم التنظيم التكفيري المستولد من رحم تنظيم القاعدة الإرهابي الذي تدعي واشنطن أنها تحاربه، في حين أن كل معطيات الواقع تؤكد أنها الراعية الأكبر له ولبقية الفصائل الإرهابية المسلحة.

• تعدد التنظيمات الإرهابية وانقساماتها المتعددة يجعل الإمكانية كبيرة لتفريخ تنظيمات جديدة من التنظيم الأم، وهذا يزيد من احتمال حدوث احتكاكات واقتتال وتناحر سواء لكسب المزيد من النفوذ والهيمنة على بقية التنظيمات، أو للاستئثار بما تخلفه سلطات الأمر الواقع من ميزات وتعدد مصادر الدخل والثروة، أو لضمان رضا المشغل الخارجي الذي يتحكم بالفصائل المسلحة ومشغليها، أي الأمريكي الذي يحرك الجميع بالريمونت كونترول بدون أي عناء.

• تبدل طبيعة الحياة المجتمعية من وقت لآخر بما ينسجم والأسس الحاكمة لكل تنظيم من التنظيمات الإرهابية جعل المدنيين المقيمين في تلك المنطقة على دراية بنقاط الضعف والقوة لكل الفصائل المسلحة المنتشرة على تلك الجغرافيا، وهذا يعطي أي تحرك شعبي أو مظاهرات بعداً خطيراً يهدد في العمق من يتم التحرك ضده، وكلما كان الزخم الشعبي كبيراً كلما كان تأثيره مرعباً لتلك التنظيمات بما فيها هيئة تحرير الشام بزعامة الجولاني.

• السكان المدنيون المقيمون في تلك المنطقة اكتسبوا خبرة في التعامل مع الإرهاب المسلح، وعلى الرغم من فرض تلك التنظيمات إرادتها ونظام حياتها بقوة السلاح، إلا أن زيادة الظلم والعسف وفرض الإتاوات والضرائب والاعتقالات التعسفية والأحكام الظالمة، وكثير غير ذلك كفيل بخروج الناس عن الطاعة ومواجهة المتزعم المستبد مهما بلغت وحشيته ونزعة الانتقام لدى السلطات المنضوية تحت سيطرته.

• في جميع الأحوال لا يمكن فهم أي تطور تشهده الإقطاعيات التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام أو بقية التنظيمات الإرهابية المسلحة بمعزل عن العامل الخارجي المرتبط بدوره بالتطورات والتداعيات الجوهرية لما تشهدها المنطقة والإقليم من اشتباك يكاد يقترب من الذروة قبل الانفجار.

هل تعتقدون ان هذه التحركات قد تهدد مكانة الرجل القوي بين العصابات المسلحة؟ خاصة ان المحتجين توجهوا مباشرة لاتهام الجولاني بالمسؤولية عن الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون!! وهل ترون ان هذه الاحتجاجات تخفي صراعا على السلطة او خلافات بين الداعمين الخارجيين لهذه المجموعات المسلحة ؟

لا شك أن استمرار التظاهرات واشتدادها واتساع رقعتها الجغرافية التي تنتشر عليها تشكل تهديداً جدياً ليس لزعيم التنظيم الجولاني فقط، بل وللتنظيم بكليته، فالحديث يدور عن عشرات القرى والبلدات التي انضمت لتلك التحركات وشاركت فيها بزخم وفاعلية، وهذا يعكس تمرداً شعبية على تعسف المسلحين، كما يشير إلى تناحر حاد على السلطة والثروة بين التنظيمات المسلحة من جهة، وفي داخل التنظيم الذي يقوده الجولاني من جهة ثانية، ولا يمكن فهم عملية “الخلية الأمنية” التي نفذها التنظيم مطلع شباط الماضي وأدت إلى اعتقال /400/ من القياديين في التنظيم بتهمة التعامل مع جهات خارجية إلا أنها تجسيد عملي لتخوف الجولاني من الانقلاب عليه ضمن تنظيمه، كما أن العفو العام الذي أصدرته الهيئة والإفراج عن الكثير من المعتقلين دليل آخر على هذا التخوف، مع العرض أن العفو لم يقلل من زخم التظاهرات، وازدياد شدتها وأعداد المنخرطين فيها، وهذا يظهر البعد الخارجي والدور المباشر للمشغلين، وهنا يمكن تسجيل العديد من النقاط المتعلقة بالموضوع، ومنها:

• دخول الاحتجاجات أسبوعها الثالث وتدحرجها نحو المزيد من التصعيد، مع اتساع المناطق المشمولة، ومن ضمنها: مدينة إدلب وبلدات: جسر الشغورــ معرة مصرين ــ حزانو ــ بنّش ــ تفتناز ــ أرمناز ــ الأتارب ــ سرمدا ــ أطمة ــ دارة عزّة ــ طعوم ـــ وعشرات البلدات والقرى الأخرى، ومن اللافت للانتباه إعلان بعض مقاتلي الفصائل في تلك المناطق تضامنهم مع المتظاهرين، ورفعهم لافتات تدعو إلى تحقيق مطالب المنتفضين فوراً، مع الإشارة إلى تمسك المتظاهرين في جميع المناطق بثلاثة مطالب أساسية: تنحي الجولاني، وتبييض السجون بشكل كامل، وتشكيل “مجلس شورى” منتخب، وهذا يعني أن الأمور مرشحة لمزيد من التصعيد.

• هروب الشخص الأكثر قُرباً من الجولاني جهاد عيسى الشيخ “أبو أحمد زكور” بعد حملة الاعتقالات التي نفذها جهاز الأمن في تنظيم هيئة تحرير الشام إلى أعزاز شمال غربي مدينة حلب، حيث السيطرة هناك لما يسمى “الجيش الوطني” المنضوي تحت العباءة التركية، واتهام الجولاني ومسؤول الأمن لديه بالتنسيق مع التحالف الأمريكي، وتقديم العديد من الشواهد على تلك العلاقة القائمة والمستمرة على عكس ما تعلنه وسائل الإعلام الأمريكية، أو تلك الناطقة باسم هيئة تحرير الشام التي يتزعمها الجولاني، وقد تكون هذه العملية مقدمة لانشقاقات كبرى داخل صفوف التنظيم في الأيام القادمة.

• إعلان المرجعية الشرعية للجماعات المسلحة في إدلب وحلب ممثلة بما يسمى “المجلس الإسلامي السوري” تأييدها للمظاهرات التي تخرج مطالبة بتنحية الجولاني، والدعوة إلى تشكيل قيادة جديدة، وإدانة من وصفتهم بالظالمين، والمطالبة بمحاسبتهم على تجاوزاتهم التي زادت عن القدرة على التحمل، والظلم الذي يطبقونه على الجميع في مناطق سيطرتهم.

• لا يجوز أغفال دور العامل الخارجي تركياً كان أم أمريكياً، فليس من مصلحة واشنطن أو أنقرة زيادة نفوذ أي تنظيم تشرفان على تحركاته ونشاطاته، بل إن الحرص على تعدد تلك التنظيمات يبقيها جميعا أضعف من أن تتمرد على المشغل، ويحافظ على دورها في بسط السيطرة المباشرة على الناس، والتطبيق الحرفي للأجندة التي تطلب منها، فضلاً عن أنه يجعلها أكثر تبعية وحاجة للفوز بالرضا المقترن بتوسيع الصلاحيات الممنوحة، ويخطئ من يتوهم أن الجولاني أو غيره من المتزعمين الإرهابيين يقدم على أي خطوة إلا بإيعاز من المشغل الخارجي لتنفيذ مهمة محددة الحجم والمدة والمدى، أو على الأقل بضوء أخضر وقبول مسبق.

الجماعات الإرهابية التي تسيطر على ادلب ومناطق سورية اخرى، تحظى بالحماية والتمويل الخارجي.. وهذا ليس سرا! كما انها _وخصوصا هيئة تحرير الشام_ باتت أكثر ارتباطا بواشنطن التي بدأت تتخلى عن عملاء أكبر من ذلك كما هو الحال في اوكرانيا.. فهل يمكن ان نشهد انهيارا لهذه الجماعات الارهابية مع ضعف الدور الاميركي المنهك جراء العدوان على غزة؟

هيئة تحرير الشام ليس فقط مرتبطة بواشنطن، بل هي كداعش صنيعة الاستخبارات الأمريكية، والحفاظ عليها ضرورة أمريكية لتمديد صلاحية ذريعة الوجود العسكري الأمريكي ومن معه تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، وهذا كلام حق يراد به باطل، فتغيير الاسم من “جبهة النصرة” إلى هيئة تحرير الشام لا يؤثر على هويتها الأساسية المنسجمة مع الاستراتيجية الأمريكية القائمة على مبدأ “الحرب بالإرهاب” وليس “الحرب على الإرهاب”، ولن تجد واشنطن أي حرج في الإلقاء بالهيئة بكليتها إلى الهاوية عندما ينتهي دورها المرسوم لها، ومثل هذا السلوك مكون أساسي من مكونات هوية التعامل السياسي الأمريكي مع الأتباع وأصحاب الأدوار الوظيفية أفراداً كانوا أم منظمات أم دولاً.

إن القراءة الموضوعية لتطور الأحداث تشير إلى أن واشنطن ما تزال ترى في تلك التنظيمات المسلحة أداة قابلة للاستثمار، ومع تراجع الفعالية الأمريكية تصبح حاجتها أكبر للإرهاب المسلح كي تبقي الأمور بعيدة عن الحل أو الحسم، وهذه نقطة مهمة يجب الانتباه إليها والتعامل معها بكثير من الحذر، ومن يتابع الأداء المياني لتحرك داعش في البادية السورية وبخاصة من جهة الشرق والجنوب الشرقي وازدياد عملياته ويقارنها مع إصرار الجولاني على التصعيد في أكثر من جبهة على اتجاه الشمال الغربي لحماة وغرب حلب إضافة إلى معظم خطوط التماس المباشر في إدلب يدرك أن المشغل واحد، وأن من يحرك أولئك القتلة عن بعد إنما ينفذ المشروع الأمريكي الهادف إلى إبقاء المنطقة بعيدة عن الاستقرار طالما لم يستطع فرض أجندته التقسيمية، كما يجب أن يبقى حاضراً على طاولة العمليات أن المشغل الخارجي قد يزيد من وتيرة تحريك كل ما تبقى من الجسد المسلح على الجغرافيا السورية للتغطية على الإخفاق الميداني الصهيو ـــأمريكي في الحرب الوحشية على غزة، والدلالات الجيوبوليتكية التي تمخضت عهنها بقية الجبهات المساندة ولا سيما على الاتجاهين اللبناني واليمني.”.

الى اين يمكن ان يصل هذا الصراع المكشوف بين زعماء العصابات المسلحة في ادلب ومناطق شمال سوريا؟ وهل سيتمكن الجولاني من حسم الصراع وقمع المحتجين كما فعل منذ سنوات حتى الان؟ والى اي حد ترون ان هذا الصراع يمكن ان يرفع درجة الوعي الشعبي بضرورة العودة الى كنف الدولة؟

” من الصعوبة التنبؤ بالمآل النهائي لهكذا تحركات مركبة ومعقدة، لأن الأمر في جوهره متعلق بالخارج المشغل وليس بالمنفذين على أرض الواقع، وهذا يجعل النتيجة محكومة بالصراع الأوسع ليس فقط على الجغرافيا السورية، بل وعلى مستوى الإقليم كاملاً، فالمنطقة دخلت في حالة اشتباك مزمن وعصي على الحلول القابلة للتطبيق، ومع أن التركي هو المسيطر الفعلي على المنطقة بمن فيها من تنظيمات إرهابية، إلا أنه مرتبط عضوياً بالعجلة الأمريكية، ومن المهم الإشارة إلى بعض النقاط التي تساعد على توضيح الصورة العامة وفكفكة مكوناتها المتناقضة، ومنها:

• المدى الذي يمكن أن يبلغه الصراع بين زعماء العصابات الإرهابية المسلحة محكوم برؤية المشغل الخارجي، وليس بما يمتلكه هذا التنظيم أو ذاك، وحتى هذا الأمر مرسوم بدقة وفق الرؤية الأمريكية، ومن ينضوي تحت عباءة واشنطن، وموضوعياً من المفترض أن يكون الوعي الشعبي بخطورة جميع التنظيمات الإرهابية المسلحة قد نضج بعد كل هذه السنوات من الحرب المركبة المفروضة، لكن تبلور هذا الوعي وإمكانية انعكاسه على أرض الواقع المعاش ما تزال في حدودها الدنيا، نظراً لإحكام السيطرة من المسلحين على البشر والحجر والشجر، وهذا جزء من الخبث الأمريكي الذي مكَّن تلك العصابات المسلحة من الانتشار وإحكام السيطرة، ولو أن البوصلة الأمريكية متجهة نحو انتهاء دور الجولاني لما بقي عدة أيام أمام اتساع الاحتجاجات والتظاهرات المناهضة له وانتشارها في غالبية المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، وفي الوقت نفسه، لو لم تكن تلك التحركات بإيعاز المشغل الخارجي لما رأت النور، ولكان الجولاني أخمد أنفاس جموع المتظاهرين قبل أن يخرجوا من بيوتهم، فلا الجولاني صاحب قرار، ولا المتظاهرون والمحتجون أصحاب مشروع وطني، وكلا الجانبين ينفذ القسم الخاص به فيما تبقى من فصول الحرب على سورية ومحور المقاومة.

• استدعاء عدد من القيادات البارزة فيما يسمى “الجيش الوطني” لاجتماع موسع ومطول عقد في مبنى الاستخبارات التركية في أنقرة منتصف شباط الماضي، ولا يخفى على من يحاكم ما يحدث بمسؤولية وموضوعية أن هذا يندرج ضمن الجهود التركية التي تكرسها أنقرة لإعادة هيكلة وتنظيم “الجيش الوطني”، وتحويله إلى ما يشبه المؤسسات العسكرية الرسمية في الدول المستقلة، مع ضمان ربط كل توجهات “الحكومة المؤقتة” وما يتعلق بها من بنى عسكرية وسياسية وخدمية بمؤسسات النظام التركيّ، وهذا يجعل تلك المناطق أقرب ما تكون إلى طبيعة الحياة اليومية في الداخل التركي، و هنا مكمن الخطورة الكبرى التي تعكسها نوايا أردوغان وأهدافه المفضوحة من وراء التعنت والإصرار على البقاء في شمال سورية، بهدف تحويل الاحتلال القائم إلى ضم فعلي إذا استطاع ذلك، ولن يستطيع.

• بغض النظر عما يتم تداوله إعلامياً عن خلافات تركية ــ أمريكية وخشية واشنطن من انزياح أردوغاني أكبر باتجاه روسيا وإيران، إلا أن الزيارة التي قام بها، كلّ من وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات التركيين إلى واشنطن بتاريخ 7و8/3/2024م. دللت على عمق الارتباط التركي بالعجلة الأمريكية، ولعل البون الواسع بين تصريحات المسؤولين الأتراك وبين ما ينفذونه على أرض الواقع بخصوص الإجرام الذي تتعرض له غزة خير شاهد على صحة ما نقول، وهنا تتضح خطورة التنسيق المسبق بين واشنطن وأنقرة للقادم من الأيام، فكلا الاحتلالين لن يدوم، وأية تداعيات مستقبلية ستأخذ بالحسبان أن الجولاني وتنظيمه لم يعودا مقبولين حتى من سكان المناطق التي يسيطرون عليها، الأمر الذي يتطلب إخراجاً أكثر إقناعاً للرأي العام الداخلي والإقليمي، ولا شك أن تحريك الشارع ضد الجولاني يستند إلى ما تم الاتفاق عليه، أو مناقشته على أقل تقدير في الاجتماع الأخير للمسؤولين الأمريكيين والأتراك.

بالعودة الى شأن آخر هو الاهم في ملفات المنطقة، فقد سمعنا البيان الصادر عن اجتماعات الفصائل الفلسطينية في موسكو وما جاء فيه من نقاط مهمة للتصدي للعدوان الاسرائيلي، واصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني.. ولكن السؤال يبقى دائما: هل سترى هذه التوافقات طريقها للتنفيذ؟ وهل ستدفع الازمة ببعض الأطراف الى التخلي عن اوهام المراهنة على المشاريع الاميركية في المنطقة؟

الموضوع الفلسطيني يشغل العالم بكليته هذه الأيام، وحقيقة أن ما قدمه الفلسطينيون حتى الآن أقرب إلى المعجزات، وهذا لا يقلل بحال من الأحوال من فداحة الضريبة التي يدفعها الشعب الفلسطيني على امتداد عقود، وإن كانت غزارة نهر الدم الفلسطيني المهدور منذ السابع من تشرين الأول 2013م. أكبر بكثير مما قد يخطر على الذهن.

بالعودة إلى مضمون السؤال من المهم التمييز بين الجانب النظري والجانب العملي، وواقع الأمر يقول: كل اجتماعات الكون لن توفر قطرة دم من طفل فلسطيني يقصف بأشد أنواع أسلحة التدمير الشامل على مدار الساعة، ولن تخفي وجع دمعة طفلة فلسطينية تعطي كسرة الخبز لشقيقتها الصغرى مع أنها تتضور جوعاً… جميل أن يخرج البيان المشترك للفصائل الفلسطينية التي اجتمعت في موسكو بلغة متماسكة وتعبير عن موقف موحد، لكن واقع الأمر ليس كذلك، بل يقول الكثير، فبعض الفصائل المجتمعة في موسكو ما تزال مقتنعة وتتبنى خيار أوسلو، وهذا يفقد أي مؤتمر أو لقاء من أية أهمية قابلة للتبلور، فالنهج التطبيعي المعتمد رسمياً من السلطة الفلسطينية سبب جوهري في الوضع الضاغط الذي يعيشه الفلسطينيون، ومن العبث التفكير بنتائج جيدة طالما أن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال عنوان الحال القائم، وبسبب ذاك التنسيق يرتقي الشهداء ويزج بالمقاومين في السجون ويحاصر الفلسطينيون وتعد أنفاسهم ويضيق الخناق عليهم بمباركة بعض أشقائهم الفلسطينيين، وهذا ما دفعني للقول: إن كل هذه التحركات وما شابهها عبثي ويمنح الوحشية الإسرائيلية المزيد من الوقت للقضاء على أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين في الضفة والقطاع بآن معاً.

إذا حاولنا توسيع بيكار الرؤية قليلاً تتضح لنا صورة مركبة ومتداخلة، وتضم العديد من المكونات ومنها:

• الحضور الأمريكي سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً في المنطقة هو الأكثر فاعلية وتأثيراً، وهو يتجاوز عنوان دعم كيان الاحتلال الإسرائيلي ليحتل مرتبة الشراكة الكاملة في قتل الفلسطينيين وتقييد إرادة المجتمع الدولي بكل قواه العظمى والتقليدية، وتعجيزه عن فعل أي شيء يمكن أن يبنى عليه.

• حضور الأساطيل العسكرية الأمريكية، واستخدام النقض “الفيتو” الأمريكي في مجلس الأمن عدة مرات لمنع وقف إطلاق النار ضد أهل غزة بخاصة والفلسطينيين بعامة، وهذا يتضمن رسالة أمريكية شديدة الوضوح موجهة بالدرجة الأولى للقوتين العظميين روسيا والصين، ومفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قطباً أوحد وستبقى القطب الأوحد، وأن الكلمة لها وحدها في كل ما تشهده المنطقة من أحداث وتطورات وتداعيات.

• حقيقة الامر الواقع تقول: لولا المواقف المشرفة لمحور المقاومة ووقوفه العلني والعملي مع المقاومة الفلسطينية في كل الأوقات وعلى مختلف الجبهات لكانت واشنطن استطاعت فرض الأحادية القطبية على العالم لقرن قادم، مع العرض أن المنطقة بالعرف الاستراتيجي تقع ضمن المجال الحيوي الروسي، وهي بوابة ليس لها مكافئ في العالم لتمكين الصين من العبور باطمئنان لإزاحة التربع الأمريكي على عرش الاقتصاد العالمي، وكلا الأمرين غير مفهومين بالقراءة الموضعية المنطلقة من أسس الجيوبولتيك كعلم متخصص بالهيبة والنفوذ وتعزيز عوامل القوة الشاملة للدول الطامحة بحجز مقعد خاص بها في غرفة عمليات القيادة العالمية.

• لا شك أن اجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو مؤشر على محاولة روسية لقطع الطريق على التفرد الأمريكي في التعامل مع التداعيات المذهلة التي تبلورت حتى الآن كنتائج مباشرة لملحمة طوفان الأقصى، لكن هذا الإنجاز الدبلوماسي لموسكو بحاجة إلى متممات عملية على أرض الواقع، وهذه ليس دعوة لانخراط عسكري روسي أو صيني بشكل مباشر، لأن اللوحة المتشكلة لا توحي بذلك قط، وبالتالي هي قراءة لإمكانية إحداث تبدل جوهري يخدم بالدرجة الأولى موسكو وبكين على الصعيد الاستراتيجي من خلال زيادة دعم أطراف محور المقاومة التي أخذت على عاتقها مواجهة الغطرسة الأمريكية في كل ميادين المواجهة.

• قد تكون القراءة الاستراتيجية للدولتين العظميين روسيا والصين، تتضمن جدوى الابتعاد عن التورط المباشر في الواقع المتشكل لضمان إغراق واشنطن وحلفائها أكثر وأكثر، وتسريع عملية الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، لكن وعلى الضفة الأخرى هناك صورة أخرى مقابلة، فماذا لو نجحت واشنطن والكيان الإسرائيلي في فرض سياسة الأمر الواقع بالقوة التدميرية، وبغض النظر عن أن هذا لن يحدث، ومحور المقاومة اليوم أكثر قوة وحضوراً وفاعلية، لكن هذا الأمر أحد الاحتمالات التي يجب أن تبقى على الطاولة، ومن البدهي أنه في تلك الحالة لن يمنع استخدام الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن واشنطن وأتباعها من سرعة العودة لإعادة التموضع في الحدائق الخلفية لموسكو وبكين، وإعادة رسم الخارطة الجيوبوليتكية وفق المعطيات المتشكلة.

• أخيراً من المهم التذكير بأن إصلاح البيت الداخلي الفلسطيني أولوية يجب العمل على بلورتها بكل السبل المتاحة، ولا شك أن الإنجازات النوعية اتي يفرضها المحور المقاوم المشتبك من اليمن إلى إيران بشكل أو بآخر ستثمر تداعياتها الميدانية الكثير مما هو صالح للبناء عليه والانطلاق نحو عالم جديد بعيد عن الغطرسة والعنصرية والتوحش المقيت.”



Source link

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى